مستقبل غامض للصحافة الاستقصائية في مالطا

في 16 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، قُتلت الصحفية المالطية الشهيرة دافني كاروانا غاليزيا، التي كانت وراء كشف العديد من الفضائح في بلادها، حيث أثار اغتيالها صدمة عارمة غير مسبوقة في أوساط الصحافة المالطية إلى درجة بات معها الفاعلون الإعلاميون يترددون بين الاستسلام للخوف والاستمرار في المهمة الإخبارية بكل إرادة وعزيمة.

بعد أسبوعين من اغتيال دافني كاروانا غاليزيا، خرج الآلاف من المواطنين مرة أخرى إلى شوارع العاصمة المالطية هذا الأحد 29 أكتوبر/تشرين الأول للمطالبة بإحقاق العدالة وإعلان رفضهم لتكميم الأفواه. ذلك أن هذا الاغتيال، الذي كان يصعب حتى عهد قريب تخيل وقوعه داخل الاتحاد الأوروبي، يحمل في طياته إشارة إنذار مؤلمة للصحفيين المالطيين قاطبة، والذين مازالوا لم يستيقظوا من هول الصدمة.

فبغض النظر عن رسائل التضامن التي أظهرها الصحفيون على مدى الأسبوعين الماضيين، تبقى علامات الخوف والقلق واضحة على الأوجه بشكل لا غبار عليه. وفي هذا الصدد أوضح لنا أحد زملاء كاروانا غاليزيا الذي التقيناه في مالطا قائلاً: إنهم لا يستهدفون دافني لوحدها، بل إنهم يحاولون الذهاب إلى أبعد من ذلك بكثير.

صحيح أن اغتيال دافني كاروانا غاليزيا يمثل سادس جريمة قتل بسيارة مفخخة خلال عام واحد في هذا البلد الصغير الذي لا تتجاوز ساكنته 430.000 نسمة، بيد أن هذا الهجوم خلف استياءً عميقاً في النفوس. فقد أكد مايكل بريغليو رئيس تحرير جريدة تايمز أوف مالطا أن كثيراً من الناس، بمن فيهم أنا، لا نزال في حالة صدمة. لم نعد مرتاحي البال. نشعر أنه لا يوجد من يحمينا. ومن جهته، يوضح صحفي مستقل يعمل في فاليتا - مفضلاً عدم الكشف عن هويته - أن هذا القلق قد نال من كل المالطيين الذين أصبحوا يخافون من نشر رسائل على صفحاتهم الشخصية في فيسبوك.

وقد تزايدت حدة هذا الخوف إلى درجة باتت معها الرقابة الذاتية هي القاعدة التي تحكم عمل كثير من الصحفيين في هذه الجزيرة الصغيرة، حيث يشعرون وكأنهم مستعمَرون من قبل حفنة من اللصوص الذين يُنصبون أنفسهم فوق القانون، على حد تعبير مايكل بريغوليو. وفي هذا الصدد، تؤكد كورين فويلا، شقيقة دافني، أن بعض الصحفيين يفضلون التخلي عن نشر مقالاتهم، مضيفة أن دافني كانت هي الوحيدة التي تطالب بالمحسابة، وذلك باستخدام المدونة التي أنشأتها للكشف عن تلك القضايا الكبرى.

بين مكافحة الخوف والمعاناة في ظل الفساد

رغم القلق والمخاوف، فإن تصميم الصحفيين المالطيين يبقى قوياً خاصة وأنهم يشعرون كما لو كانوا يحملون على عاتقهم مسؤولية إضافية بعد مقتل زميلتهم الصحفية الرائدة. ويوضح هيرمان غريش، المحرر في صحيفة تايمز أوف مالطا أونلاين، أن هذا الهجوم على زميلتنا لن يكمم أفواهنا ولن يمنعنا من أداء مهمتنا. فنحن الصحفيون نوجد هنا لنبعث ونجدد الأمل في المجتمع، ولذلك يتعين على الحكومة أن تدافع عن حرية الصحافة وتكف عن توفير غطاء للهجمات المتكررة ضد وسائل الإعلام.

ولمكافحة العلل التي تصيب المجتمع المالطي، فإن الحاجة إلى الوحدة باتت أمراً ضرورياً لا سيما وأن خيوط الفساد والجريمة المنظمة تلف قضية اغتيال الصحفية وتلقي بظلالها على الجزيرة بأكملها. وفي هذا الصدد، تشير بولين أديس-ميفيل، رئيسة قسم منطقة الاتحاد الأوروبي ودول البلقان في منظمة مراسلون بلا حدود، إلى وجود عالم سفلي في مالطا، عالم تطغى عليه مختلف أشكال الاتجار والفساد، موضحة أن المواطنين المالطيين الذين يقومون بتأبين هذه الصحفية المغتالة يعرفون حق المعرفة أنه بدون صوت الصحفيين سيكون من الصعب كشف بعض الحقائق من الواقع الذي تعيشه البلاد.

عقبات في وجه الحقيقة

في مالطا، يعلم الجميع أن الحقيقة لا يمكنها أن تظهر إلا بضغط من الصحفيين، الذين يواجهون بدورهم أشد العقبات والصعوبات إن هم أرادوا الاضطلاع بمهمتهم الإعلامية على الوجه الأمثل في بلد يُعتبر ملاذاً ضريبياً يلفه غموض مالي، علماً أن الأحكام القانونية بشأن مسألة التشهير تمثل هي الأخرى عقبة كبيرة أمام الراغبين في التحري والاستقصاء.

ذلك أن الساسة المالطيين لا يترددون في رفع دعاوى قضائية كلما تم الكشف عن ملفات تمس سمعتهم أو تضر بمصالحهم، إذ عادة ما يجد الصحفيون والمسؤولون عن المؤسسات الإعلامية أنفسهم مجبرين على دفع غرامات باهظة الثمن تعويضاً عن الأضرار. وفي هذا الصدد، كانت دافني كاروانا غاليزيا قد تلقت قبل اغتيالها ما لا يقل عن 42 من الدعاوى القضائية المتعلقة بالتشهير.

ففي فبراير/شباط الماضي، نشرت على مدونتها مقالاً تؤكد فيه أن وزير الاقتصاد المالطي كريس كاردونا ومستشاره جو جيرادا حلا معاً بأحد بيوت الدعارة في ألمانيا خلال زيارة رسمية، وهو ما كلفها تجميد حساباتها المصرفية كإجراء احترازي مؤقت وذلك بقيمة بلغت 47،460 يورو، بينما رُفعت ضدها أربع دعاوى بتهمة التشهير في وقت واحد.

ورداً على ذلك، استنكرت دافني كاروانا غاليزيا تلك التدابير التي اتُّخذت ضدها باعتبارها غير متناسبة، واصفة صورة فظيعة عن حالة الصحافة في مالطا، حيث كتبت الصحفية الاستقصائية الشهيرة على مدونتها أن هذا الأسلوب يخلف أثراً سلبياً هائلاً على حرية الإعلام، لأن الصحفيين لا يواجهون تُهم التشهير فحسب، بل إنهم أيضاً يتعرضون لتدابير احتياطية تُجمَّد بموجبها حساباتهم المصرفية حتى انتهاء القضية، موضحة في هذا الصدد أنه لا ينبغي أن نندهش أمام التراجع الحاد لمستوى الصحافة في مالطا، أو لاكتشاف أن عدد الراغبين في امتهان الصحافة آخذ في التراجع أكثر فأكثر، علماً أن الصحفيين يخشون من القيام بعملهم على نحو جيد بينما يصب كل ذلك في مصلحة السياسيين الفاسدين والمفسدين.

وهذا الوضع تؤكده الشهادات التي استقتها مراسلون بلا حدود، حيث صرح صحفي مالطي لمنظمتنا في يوليو/تموز 2017 قائلاً: في الأسبوع الماضي، تلقى صحفيون من جريدة التايمز ومالطا إنديبندنت تهديدات خطيرة من الشرطة وأجهزة القضاء من أجل كشف مصادرهم. وقد قاوموا ورفضوا الإفصاح عنها. وتجدر الإشارة إلى أن مصادر الصحفيين المالطيين يتعرضون بدورهم للمضايقات من جانب عناصر الشرطة الذين يقيمون أيضاً دعاوى ضدهم.

صحافة ترزح تحت هول الاستقطاب

تشهد الصحافة في مالطا انقساماً مهولاً، على غرار المشهد السياسي المحلي والمجتمع المالطي كذلك. فمن جهة هناك رئيس الوزراء جوزيف موسكات وحزب العمال الذي يمثل الوسط اليساري، فيما يقف على الطرف المقابل القوميون من الوسط اليميني.

ويشرح زميل مقرب من دافني - فضل عدم ذكر اسمه - أن حدة الاستقطاب قوية جداً وكانت هكذا على الدوام، حيث كان لدينا دائماً شعور بأن حزب العمال أو مؤيديه ينظرون إلى الصحفيين على أنهم أعداء، مضيفاً أنه من الممكن أن تكون مستقلاً وأن لا تنحاز لهذا الحزب أو ذاك، ولكن في أي حال سوف يُنظر إليك كما لو كنت تنتمي إلى هذا التيار أو التيار الآخر.

هذا ويزيد الاستقطاب من تعقيد ممارسة العمل الإعلامي في بلد حيث لا توجد مدارس للصحافة ولا نقابات للصحفين أو منظمات ينضوي تحتها أهل القطاع. وهذا بالضبط ما يتبين من خلال الموقع الإلكتروني لمعهد الصحفيين المالطيين في النص التمهيدي الذي يقدم نبذة عن هذه المؤسسة، حيث نقرأ أن المعهد أُنشئ تحت اسم نادي الصحافة في مالطا بتاريخ 3 نوفمبر/تشرين الثاني 1989 علماً أن جميع المحاولات السابقة لإحداث جمعية للصحفيين فشلت بعد بضعة أشهر من ظهورها، حيث كان سقوطها لأسباب سياسية حزبية محضة. وجدير بالذكر أن هذه المنظمة، التي يُعتبر وجودها إنجازاً في حد ذاته، تقتصر في الوقت الراهن على رصد الاعتداءات المرتكبة ضد الصحفيين والإبلاغ عنها، ولكن دون الدفاع عنا، ودون أن يؤتي عملها ثماره، على حد قول أحدهم.

ورغم ضعف نفوذه، إلا أن معهد الصحفيين المالطيين شارك في تنظيم المظاهرة الكبيرة التي شهدتها شوارع مالطا يوم الأحد 22 أكتوبر/تشرين الأول، حيث طالب القضاء بالحفاظ على سرية بيانات دافني الواردة في أجهزتها الإلكترونية مع إبقاء مصادرها محمية.

هذا وستكون حماية مصادر الصحفية المغتالة - التي تُوصف بأنها ويكيليكس قائمة بذاتها - من بين التحديات الكثيرة المطروحة أمام أهل الإعلام في مالطا، التي تحتل حالياً المرتبة 47 (من أصل 180 دولة) على جدول التصنيف العالمي لحرية الصحافة، الذي نشرته مراسلون بلا حدود.

Publié le
Updated on 18.12.2017