وسائل الإعلام الأجنبية تحت مجهر السلطات المصرية

بعد إقدامه على خنق الصحافة المحلية وفرض رقابة صارمة على على شبكات التواصل الاجتماعي، بدأ نظام عبد الفتاح السيسي يكثف ضغوطه على وسائل الإعلام الأجنبية وذلك بالتزامن مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية في البلاد.

اكتشف المصريون "اعترافاً" غريباً في 26 فبراير/شباط عندما ظهرت الشابة زبيدة على شاشة قناة أون تي.في ناكرة أنها ظلت مختفية على أيدي الشرطة لمدة عام تقريباً، عكس ما أفادت به والدتها قبل أيام قليلة بلهجة يائسة في شهادة مؤثرة أدلت بها لقناة بي.بي.سي. فخلال المقابلة التلفزيونية مع المحطة الخاصة الموالية للحكومة - والتي دامت 25 دقيقة كاملة - لم تشرح زبيدة بوضوح سبب زواجها السري المزعوم الذي منعها من الاتصال بوالدتها منذ عشرة أشهر. وفي المقابل، أُلقي القبض على أم زبيدة بعدها بيومين، بينما اختفى محاميها في اليوم التالي.


هل الأمر يتعلق بشهادة حقيقية أم باعتراف مُفبرك تحت الإكراه؟ من منهما تقول الحقيقة: الأم أم الابنة؟ مهما يكن، فإن هذه القضية المثيرة للقلق تعيد إلى الأذهان "اعترافات" المنشقين الصينيين ضحايا الاختفاء القسري، خاصة وأن السلطات المصرية اغتنمت الفرصة على الفور لتشويه سمعة هيئة الإذاعة البريطانية (بي.بي.سي)، حيث أمرت الحكومة بمقاطعتها وعدم الإدلاء بأية مقابلات لقناتها حتى تعتذر. ولم تمر سوى 24 ساعة على ذلك حتى أدانت النيابة العامة المصرية بدورها ما اعتبرته "محاولة "قوى الشر النيل من أمن وسلامة الوطن ببث ونشر الأكاذيب والأخبار غير الحقيقية من خلال وسائل الإعلام المختلفة ومواقع التواصل الاجتماعي"، حيث أصدرت أمراً إلى جميع المدعين العامين في البلاد لتدقيق محتويات وسائل الإعلام من أجل تعقب "الأخبار الزائفة". وعلى نحو غير مفاجئ بتاتاً، جاء بيان النيابة العامة ليُضفي صبغة رسمية على أساليب المراقبة التي تمارس أصلاً في مصر وعلى نطاق واسع، حيث أضفى الطابع الرسمي على أيديولوجية نظام السيسي الذي يُصنف معظم وسائل الإعلام في عداد أعداء الوطن.


يُذكر أن هذه ليست المرة الأولى التي تدعو فيها السلطات المصرية المواطنين إلى الاحتياط من الصحفيين الأجانب والغربيين، ناهيك عن محاولة تشويه سمعتهم أو ملاحقتهم أمام المحاكم. ومع ذلك فإن التصعيد ضد هيئة الإذاعة البريطانية هذه المرة يحمل في طياته آثاراً لا يمكن الاستهانة بها: فالدعوة إلى مقاطعة القناة وعدم إجراء أية مقابلات معها من شأنه أن يشكل عقبة حقيقية أمام عمل الصحفيين؛ كما أن دعم مؤيدي الرئيس السيسي لهذه الحملة الشرسة لا يقتصر فقط على تسويق فكرة المقاطعة عبر مختلف شبكات التواصل الاجتماعي، بل إنه يمتد ليصل إلى حد المطالبة أيضاً بطرد الصحفيين الأجانب، وخاصة أولئك العاملون في هيئة الإذاعة البريطانية، والذين أصبحوا يُوصفون بأنهم "رعاة الإرهاب".


وتأتي هذه التطورات الأخيرة لتزيد من تأجيج مناخ متوتر أصلاً. فمع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها بين 26 و28 مارس/آذار، يؤكد العديد من مراسلي وسائل الإعلام الأجنبية أو وكالات الأنباء الدولية المقيمين في القاهرة، دون الكشف عن هويتهم، أن الأجواء تتسم بعداء متزايد، علماً أن بعضهم تعرضوا لهجمات متكررة على شبكة الإنترنت من جيوش المتصيدين المؤيدين للحكومة. فعلى تويتر مثلاً، طال الحجب حساب وائل حسين، مراسل قناة بي.بي.سي في القاهرة، ليُطلَق بدلاً منه حساب زائف باسمه تبيَّن أنه متخصص في نشر الأخبار الزائفة. وبدورها، تعرضت أمينة إسماعيل صحفية رويترز لنفس المضايقات، حيث ظهرت فجأة العديد من الحسابات الزائفة باسمها. لكنها كانت محظوظة أكثر من حسين: فقد تم حجب تلك الحسابات الخاطئة بينما تمكنت من استعادة حسابها الأصلي.


وجدير بالذكر أن الضغوط على وسائل الإعلام والمراسلين الأجانب لها عواقب أخطر على العمل الصحفي، حيث تؤدي بالمحررين إلى تجنب إثارة مواضيع حساسة، إما بدافع الخوف أو تفادياً للوقوع في مشاكل. فوفقاً للمعلومات المتوفرة لدى منظمة مراسلون بلا حدود، تزايد عدد المراسلين الذين يترددون في توقيع مقالاتهم منذ اندلاع قضية بي.بي.سي، خشية مواجهة خطر الترحيل، كما حصل لمراسل جريدة لاكروا الفرنسية، ريمي بيغاليو، الذي طردته السلطات المصرية من البلاد في عام 2016. بيد أن هذه المخاوف لها ما يبررها، لا سيما وأن بعض الصحفيين يضطرون أحياناً إلى العمل دون بطاقة اعتماد، بسبب الإجراءات الإدارية المعقدة وطول مدة عمليات التحقق التي تجريها أجهزة الاستخبارات. كما ارتفعت درجة خطر الاختطاف في الشارع بشكل مهول، على خلفية الخطاب الرسمي المعادي لوسائل الإعلام الدولية، والذي جعل المواطنين وعناصر الشرطة يحتاطون من الصحفيين الأجانب أكثر من أي وقت، بل وتصل طريقة معاملتهم إلى حد العداء في العديد من الحالات.


فمن جهة، بات المراسلون مطالبين بإيجاد سبل الوقاية من الرقابة الذاتية، كما أصبح عليهم مضاعفة الجهود والاستعانة مزيد من الحيل لمواصلة العمل بأمان، من جهة ثانية. فبينما ينادي المسؤولون الحكوميون وأنصار النظام بمقاطعة وسائل الإعلام الأجنبية التي يعتبرونها مفرطة في الانتقاد، وأمام تعرض المواطنين للخطر في حال التعاون مع المنابر الإعلامية المغضوب عليها من الجهات الرسمية، أضحى إيجاد مُخاطَب في مصر أشبه ما يكون بمغامرة محفوفة بالمخاطر.

هذا وتقبع مصر في المرتبة 161 (من أصل 180) على جدول التصنيف العالمي لحرية الصحافة، الذي نشرته مراسلون بلا حدود في 2017. فقد تم خنق معظم وسائل الإعلام المستقلة في البلاد، إما من خلال حجب المواقع أو بوضعها تحت الوصاية، علماً أن الحظر يطال أيضاً موقع منظمة مراسلون بلا حدود، الذي يستحيل الوصول إلى محتوياته في مصر منذ أغسطس/آب 2017.
Publié le
Updated on 08.03.2018