أمريكا

 تراجع الولايات المتحدة يقابله ارتقاء ملحوظ لجارتها كندا

خلال السنة الأولى من إدارة دونالد ترامب،تراجعت الولايات المتحدة مرتبتين في التصنيف العالمي لحرية الصحافة، حيث باتت تحتل المركز 45 من أصل 180 بلداً، مواصلة بذلك تقهقرها على الصعيد الدولي. وفي المقابل، كسبت جارتها كندا أربع مراتب بفضل الإجراءات التي وضعتها السلطات في سبيل حماية سرية مصادر الصحفيين.

دونالد ترامب يقود قاطرة التراجع

خلال عام 2017، ساهم دونالد ترامب في تأجيج تراجع بلاده على جدول التصنيف العالمي، بسبب هجماته المتكررة على وسائل الإعلام، علماً أنهاعتبر الصحافة "عدوة للشعب الأمريكي" في العديد من المناسبات، محاولاً في الوقت ذاته حظر دخول البيت الأبيض على مجموعة من وسائل الإعلام، ناهيك عن استخدامه المنهجي لمصطلح "الأخبار الزائفة" في إشارته إلى التقارير الصحفية الناقدة لنشاطه السياسي، حتى أنه دعا إلى سحب تراخيص البث من بعض القنوات والمحطات الإذاعية. كما لا يتوانى الرئيس الأمريكي عن استهداف وسائل الإعلام والصحفيين كلما انزعج مما يُقال عنه في الجرائد والمواقع الإخبارية والقنوات والإذاعات، علماً أنه أعاد نشر تغريدات عنيفة المحتوى عن سي.إن.إن في أكثر من مناسبة.

وقد اقترن هذا الخطاب العنيف المعادي للصحافة من أعلى مستويات الدولة بزيادة في عدد الانتهاكات ضد حرية الإعلام في البلاد، حيث بات المراسلون مهددين بالاعتقال لمجرد تغطية مظاهرات احتجاجية أو توجيه أسئلة لمسؤولين في الإدارة، علماً أن عدداً من الصحفيين تعرضوا للاعتداء الجسدي أثناء عملهم.

وأمام الارتفاع المهول في معدلات الانتهاكات التي تطال حرية الصحافة في الولايات المتحدة، انضمت مراسلون بلا حدود في أغسطس/آب الماضي إلى ائتلاف يضم أكثر من 20 منظمة لإطلاق أداة لمراقبة حرية الصحافة في البلاد، تحت اسم U.S. Press Freedom Tracker. وبالفعل، تم توثيق 34 حالة اعتقال في أوساط الصحفيين خلال عام 2017، حيث وقعت غالبيتها أثناء تغطية مظاهرات احتجاجية. (الاطلاع على مزيد من التفاصيل حول هذه المبادرة)

هذا وقد زاد وصول ترامب إلى البيت الأبيض من تفاقم وضع حرية الصحافة الذي كانت تشوبه عدة شوائب أصلاً. ذلك أن قانون التجسس يتيح متابعة المبلغين عن المخالفات أمام القضاء إذا ما سرَّبوا إلى الصحافة معلومات تدخل في نطاق المصلحة العامة، بينما لا يوجد حتى الآن أي قانون اتحادي يكفل حق الصحفيين في حماية مصادرهم، إذ مازال المراسلون يخضعون للتفتيش بينما يتم الاطلاع على مُعداتهم عند عبورهم الحدود الأمريكية بعد تغطية قضايا حساسة من قبيل أنشطة القوات المسلحة الثورية الكولومبية أو الأحداث في كردستان.

بيد أن تداعيات التراجع الأمريكي في مجال حرية الصحافة لا تقتصر فقط على الصحفيين العاملين في الولايات المتحدة، بل إنها تمتد أيضاً لتخلق حالة دولية وخيمة العواقب. فقد أصبح مصطلح "الأخبار الزائفة" شائعاً على نطاق واسع، حيث بات يُستخدم في كل حدب وصوب بهدف قمع وسائل الإعلام، في الدول الاستبدادية والبلدان الديمقراطية على حد سواء، علماً أن حكومات العديد من الدول الأعضاء في منظمة دول شرق الكاريبي اعتمدت عبارة دونالد ترامب المفضلة لانتقاد عمل الصحفيين. وبالنظر إلى أن قوانين العديد من بلدان الكاريبي ما زالت تجرم التشهير، فإن انتشار خطاب الرئيس الأمريكي المعادي لوسائل الإعلام قد تكون له عواقب وخيمة على الصحافة المحلية.

كندا تعود إلى حظيرة العشرين الأوائل، لكن الوضع لا يزال مقلقاً

خلال عام 2016، كانت آفاق حرية الصحافة قاتمة في كندا، حيث أظهرت الحكومة في العديد من المناسبات استخفافاً كبيراً بسرية مصادر الصحفيين، التي تُعتبر من المبادئ الأساسية، علماً أن هذا التوجه تزايد بحدة منذ السنة الماضية. فقد وُجهت اتهامات جنائية ومدنية إلى جاستن بريك، صحفية جريدة ذي إنديبندت الكندية، وذلك بعد تغطيتها لمظاهرات مطالبة بحماية البيئة. كما أصدرت محكمة الاستئناف في أونتاريو أمراً قضائياً يُجبر بِن ماكوش، مراسل VICE News،على أن يُفصح للشرطة عن جميع اتصالاته مع مصدر معلوماته. ومع ذلك، حاولت الدولة إيجاد حل لهذا الوضع من خلال إجراءات ملموسة، على صعيد المقاطعات وعلى المستوى الاتحادي كذلك، حيث تم إصدار قانون لحماية سرية المصادر، والذي صوت عليه البرلمان بالإجماع في أكتوبر/تشرين الأول 2017. وبعدها بشهرين، أوصت لجنة تحقيق (مكلفة بدراسة وضع عدة صحفيين تحت مراقبة شرطة كيبيك) باعتماد قانون جديد من شأنه أن يوفر حماية أفضل لمصادر الصحفيين، وهي التحسينات التي تفسر ارتقاء كندا أربع مراتب في التصنيف العالمي هذه السنة.

ورغم هذا التقدم، لا يزال أمام كندا أشواط كثيرة يجب قطعها، علماً أن بن ماكوش لا يزال مطالباً بالدفاع عن سرية محادثاته مع أحد مصادره أمام المحكمة العليا، في حين لا تزال الاتهامات قائمة ضد جاستن برايك، بينما سيتعين انتظار كيفية تطبيق أحكام القانون الجديد، وخاصة في حالة ماري مود دينيس، الصحفية الاستقصائية العاملة في راديو كندا والتي تم استدعاؤها في مارس/آذار من قبل المحكمة العليا في كيبيك للكشف عن مصادر سرية.

 

حصيلة متباينة في أمريكا اللاتينية

تلاحظ منظمة مراسلون بلا حدود تحسناً طفيفاً على صعيد حرية الصحافة في الأمريكتين. ومع ذلك، ينبغي ألا تحجب هذه الزيادة المشاكل المستمرة التي تلقي بظلالها على المنطقة، من عنف وإفلات من العقاب وسياسات تعسفية في حق الصحفيين، ولاسيما في أمريكا اللاتينية.

بفضل مساحة حرة نسبياً بالنسبة لممارسة العمل الصحفي وتشريعات متقدمة في مجال حرية الإعلام، تواصل كوستاريكا (10) تصدرها لترتيب بلدان أمريكا اللاتينية في تصنيف 2018، وإن فقدت 4 مراتب في الترتيب العالمي بسبب الضغوط التي واجهها الصحفيون، وخاصة خلال الحملة الانتخابية التي بدأت في أواخر 2017.

استمرار الأباطرة في السلطة

على الطرف الآخر من جدول الترتيب، تراوح كوبا مكانها في المرتبة 172، حيث ظل سجلها الصحفي عاماً بعد عام هو الأسوأ على الإطلاق مقارنة ببقية دول القارة. فقد واصل النظام الحاكم احتكاره التام لقطاع الإعلام، حيث تمادت حكومة راؤول كاسترو في إسكات الأصوات المعارضة من خلال الشرطة وأجهزة الاستخبارات، علماً أن وسائل الإعلام الخاصة - الممنوعة دستورياً – تتعرض لشتى أنواع الاضطهاد، بينما يُعتقل الصحفيون والمدونون بانتظام أو يُجبرون على العيش في المنفى.

من جهتها، سجلت فنزويلا (143) أكبر تراجع على صعيد دول أمريكا اللاتينية، حيث فقدت ستة مراكز على جدول ترتيب 2018، وذلك في ظل تمادي الرئيس مادورو في خندق الانحراف السلطوي الذي يتخبط فيه من 2017، حيث تستهدف الشرطة الفنزويلية وأجهزة المخابرات بانتظام وسائل الإعلام المستقلة والمعارضة ومعها الصحفيين الأجانب، وذلك في محاولة لإسكات الأصوات التي تسلط الضوء على الأزمة السياسية والاقتصادية الخانقة التي تجتاح البلاد منذ مطلع 2016. فقد تزايدت وتيرة الاعتداءات على الفاعلين الإعلاميين خلال المظاهرات، بينما تضاعفت موجة الاعتقالات التعسفية، التي عادة ما تكون مصحوبة باستجوابات جائرة، ناهيك عن مصادرة المُعدات وحالات الطرد التي أصبحت متكررة في الآونة الأخيرة. كما شددت الدولة رقابتها على وسائل الإعلام خلال سنة 2017، حيث أقدمت الهيئة العامة لتنظيم قطاع السمعي البصري على سحب رخص البث من عدة إذاعات وقنوات تلفزيونية، في حين باتت الصحافة المطبوعة معرضة للخطر بسبب النقص في الورق.

وفي بوليفيا (110، -4)، يعاني قطاع الإعلام الأمرَّين وسط الظروف المُزرية التي يعمل فيها الصحفيون ناهيك عن ضُعف الموارد والبنى التحتية، في حين لا تتوانى السلطات عن تكميم الصحافة الناقدة في عهد الرئيس موراليس، الذي يتولى مقاليد الحكم منذ 2006، حيث يهاجم أعضاء من حكومته الصحفيين المعارضين علناً ولا يترددون في متابعتهم قضائياً بتهم خطيرة للدفع بهم إلى هاوية الصمت، كما هو الحال بالنسبة للصحفي ويلسون غارسيا ميريدا المُتابع بتهمة بث الفتنة وزميلته ياديرا بيلايز إيمانيريكو، التي تواجه تهمة "العنف السياسي".

حكومات عاجزة أمام دوامة العنف والإفلات من العقاب

في أمريكا الوسطى والمكسيك، مازال العنف والإفلات من العقاب يشكلان الأساس الذي تقوم عليه بيئة الخوف والرقابة الذاتية في أوساط الفاعلين الإعلاميين بمختلف بلدان المنطقة. ففي السلفادور (66) وغواتيمالا (116) وهندوراس (141) والمكسيك (147)، أصبح التخويف والتهديد والعنف الجسدي ممارسة شائعة تصاحب بشكل منهجي عمل الصحفيين الاستقصائيين، وخاصة أولئك الذين يحققون في خبايا الجريمة المنظمة وفضائح الفساد، حيث يكون مصيرهم إما التهجير القسري أو الموت بسبب نشاطهم الإعلامي: فقد شهد عام 2017 مقتل صحفي في هندوراس و11 آخرين في المكسيك، الذي أصبح ثاني أخطر بلد في العالم على حياة الصحفيين بعد سوريا. فقد أثار اغتيال ميروسلافا بريتش (ولاية تشيواوا) وخافيير فالديز (ولاية سينالوا)، موجة من السخط في شتى أنحاء البلاد وأيضاً في مختلف أوساط المجتمع الدولي، علماً أن هذين الصحفيَين المُخضرمين كانا يحققان في التواطؤ القائم بين جماعات الجريمة المنظمة وبعض الدوائر السياسية.

ففي هذه البلدان الغارقة في مستنقع تجارة الأسلحة وتهريب المخدرات، أظهرت الحكومات عجزها - مرة أخرى - على وضع حد لدوامة العنف التي تعصف بها. فحتى إذا كانت هناك آليات محددة لحماية الصحافة والصحفيين، كما هو الحال في هندوراس والمكسيك، فإنها تظل غير فعالة على الإطلاق بل وإنها لا تلائم بتاتاً ظروف السلامة المؤسفة وانعدام الأمن الوظيفي للصحفيين، وخاصة في وسائل الإعلام المستقلة.

وبدورها، لا تزال البرازيل (102، +1) ملطخة بقضايا الفساد والعنف، مما يفسر استمرار عجزها عن إيجاد موطئ قدم بين الـ100 الأوائل في جدول الترتيب العالمي. ففي سياق محلي يطغى عليه التوتر الشديد والاستقطاب السياسي، الذي بلغ ذروته على خلفية عزل الرئيسة السابقة ديلما روسيف عام 2016، مازالت السلطات البرازيلية عاجزة عن وضع حرية الصحافة ضمن أولوياتها.

ورغم الانخفاض الطفيف في معدل الاعتداءات على الصحفيين، وخاصة أثناء المظاهرات، إلا أن مثل هذه الانتهاكات تظل تخيِّم بشدة على المشهد الإعلامي البرازيلي. فكلما زاد اهتمام الصحفيين بالتحقيق في مصالح المسؤولين المنتخبين وخبايا السلطة السياسية، كلما تضاعفت وتيرة التخويف والتهديد ضدهم، إذ يواجهون بانتظام دعاوى قضائية في محاكمات تعسفية، علماً أن ظروف العمل المزرية تتفاقم بشكل أوضح في المناطق البعيدة عن المراكز الحضرية، حيث لا تتلقى وسائل الإعلام المستقلة والمجتمعية أي دعم من الدولة، مما يضعها في حالة تفرض عليها الكفاح والمقاومة أمام مختلف الصعاب من أجل ضمان استدامتها.

تقدم غير كافٍ رغم تغيير الحكومات

ارتقت الإكوادور (92) ما لا يقل عن 13 مرتبة في تصنيف 2018، محققة أكبر قفزة على صعيد القارة هذا العام، مستفيدة بذلك من انتخاب الرئيس الجديد لينين مورينو في مايو/أيار 2017، والذي ساعد وصوله إلى سدة الحكم في تخفيف حدة التوتر بين السلطات وعدد من وسائل الإعلام الخاصة، بعد ثلاث ولايات متتالية لرافائيل كوريا (2007-2017)، الذي كانت فترة حكمه مأساوية بالنسبة لحرية الصحافة في البلاد.ذلك أن الرئيس السابق لم يكن يتوانى عن التدخل في عمل وسائل الإعلام وطريقتها في تغطية الأحداث، مهاجماً الصحافة الناقدة شخصياً وبطريقة علنية، وهو الذي أثار أزمات لا حصر لها بين السلطات ووسائل الإعلام المستقلة.

وفي الأرجنتين (52، -2)، تولَّى موريسيو ماكري السلطة في ديسمبر/كانون الأول 2015، مما ساهم في تهدئة الحرب الإعلامية التي كانت تدور رحاها بين الحكومة والصحافة خلال سنوات كيرشنر. ومع ذلك، فإن الوضع لا يزال مقلقاً في البلاد بعد عامين على وصول الحكومة الجديدة: فغالباً ما تُستهدف وسائل الإعلام الأرجنتينية التي تُعتبر مُفرطة في الانتقاد، حيث تواجه العديد من الدعاوى القضائية بتهمة التشهير. وعلاوة على ذلك، تعرض العديد من المراسلين لاعتداءات عنيفة على أيدي قوات الشرطة خلال موجة الاحتجاجات الكبرى التي شهدتها البلاد في 2017.

أما في كولومبيا (130، -1)، فقد أدى توقيع اتفاقيات السلام بين الحكومة والقوات المسلحة الثورية الكولومبية (فارك) في سبتمبر/أيلول 2016 إلى تهدئة الكثير من التوترات في البلد كما بعثت في النفوس آمالاً سرعان ما تبخرت. ذلك أن كولومبيا تظل من أخطر بلدان القارة بالنسبة للصحفيين، الذين تطالهم الاعتداءات والتهديدات بالقتل وعمليات الاختطاف بشكل منتظم، علماً أن الجماعات المسلحة، مثل جيش التحرير الوطني، تسعى بشتى السبل إلى إسكات وسائل الإعلام البديلة أو المجتمعية التي تنجز تحقيقات صحفية حول أنشطتها، مما يفضي إلى بؤر سوداء حقيقية على المستوى الإعلامي في المناطق الريفية على وجه الخصوص.

وفي ظل هذا الوضع، يبقى السؤال المحير: هل سيشهد عام 2018 إعادة ترتيب الأوراق وتمهيد الطريق نحو علاقة جديدة بين الحكومات والصحفيين، خصوصاً بعد إجراء انتخابات رئاسية